الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
عن قوله صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه ـ عز وجل ـ: (وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته) ما معنى تردد الله؟ فأجاب: هذا حديث شريف، قد رواه البخاري من حديث أبي هريرة، وهو أشرف حديث روي في صفة الأولياء، وقد رد هذا الكلام طائفة وقالوا: إن الله لا يوصف بالتردد، وإنما يتردد من لا يعلم عواقب الأمور، والله أعلم بالعواقب. وربما قال بعضهم: إن الله يعامل معاملة المتردد. والتحقيق أن كلام رسوله حق، وليس أحد أعلم بالله من رسوله، ولا أنصح للأمة منه، ولا أفصح ولا أحسن بيانًا منه، فإذا كان كذلك كان المتحذلق والمنكر عليه من أضل الناس؛ وأجهلهم وأسوئهم أدبًا، بل يجب تأديبه وتعزيره، ويجب أن يصان كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم /عن الظنون الباطلة؛ والاعتقادات الفاسدة، ولكن المتردد منا، وإن كان تردده في الأمر لأجل كونه ما يعلم عاقبة الأمور، لا يكون ما وصف الله به نفسه بمنزلة ما يوصف به الواحد منا. فإن الله ليس كمثله شيء، لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، ثم هذا باطل؛ فإن الواحد منا يتردد تارة لعدم العلم بالعواقب، وتارة لما في الفعلين من المصالح والمفاسد، فيريد الفعل لما فيه من المصلحة، ويكرهه لما فيه من المفسدة، لا لجهله منه بالشيء الواحد الذي يحب من وجه ويكره من وجه، كما قيل: الشيب كـــره وكــره أن أفارقـــه ** فأعجب لشيء على البغضاء محبوب وهذا مثل إرادة المريض لدوائه الكريه، بل جميع ما يريده العبد من الأعمال الصالحة التي تكرهها النفس هو من هذا الباب، وفي الصحيح:(حفت النار بالشهوات، وحفت الجنة بالمكاره) وقال تعالى: ومن هذا الباب، يظهر معنى التردد المذكور في هذا الحديث، فإنه قال: (لا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه) فإن العبد الذي هذا حاله صار محبوبًا للحق، محبًا له، يتقرب إليه أولًا بالفرائض، وهو/ يحبها، ثم اجتهد في النوافل التي يحبها ويحب فاعلها، فأتي بكل ما يقدر عليه من محبوب الحق، فأحبه الحق لفعل محبوبه من الجانبين، بقصد اتفاق الإرادة، بحيث يحب ما يحبه محبوبه، ويكره ما يكرهه محبوبه، والرب يكره أن يسوء عبده ومحبوبه، فلزم من هذا أن يكره الموت ليزداد من محاب محبوبه. والله ـ سبحانه وتعالى ـ قد قضي بالموت، فكل ما قضي به فهو يريده ولابد منه، فالرب مريد لموته لما سبق به قضاؤه، وهو مع ذلك كاره لمساءة عبده؛ وهي المساءة التي تحصل له بالموت، فصار الموت مرادًا للحق من وجه، مكروهًا له من وجه، وهذا حقيقة التردد وهو: أن يكون الشيء الواحد مرادًا من وجه، مكروهًا من وجه، وإن كان لابد من ترجح أحد الجانبين، كما ترجح إرادة الموت، لكن مع وجود كراهة مساءة عبده، وليس إرادته لموت المؤمن الذي يحبه ويكره مساءته، كإرادته لموت الكافر الذي يبغضه ويريد مساءته. ثم قال بعد كلام سبق ذكره: ومن هذا الباب ما يقع في الوجود من الكفر والفسوق والعصيان، فإن الله ـ تعالى ـ يبغض ذلك ويسخطه، ويكرهه وينهي عنه، وهو ـ سبحانه ـ قد قدره وقضاه وشاءه بإرادته الكونية، وإن لم يرده بإرادة دينية، وهذا هو فصل الخطاب فيما تنازع فيه الناس، من أنه ـ سبحانه ـ هل يأمر بما لا يريده؟ /فالمشهور عند متكلمة أهل الإثبات، ومن وافقهم من الفقهاء أنه يأمر بما لا يريده، وقالت القدرية والمعتزلة وغيرهم: إنه لا يأمر إلا بما يريده. والتحقيق أن الإرادة في كتاب الله نوعان: إرادة دينية شرعية وإرادة كونية قدرية، فالأول كقوله تعالى: وأما الإرادة الكونية القدرية فمثل قوله تعالى: والكلمات الكونية هي: التي لا يخرج عنها بر ولا فاجر، وهي التي استعان بها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (أعوذ بكلمات الله التامات، التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر) قال الله تعالى: وأما الدينية فهي: الكتب المنزلة التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله) وقال تعالى: وكذلك الأمر الديني، كقوله تعالى: والبعث الديني، كقوله تعالى: والإرسال الديني، كقوله: /وهذا مبسوط في غير هذا الموضع. فما يقع في الوجود من المنكرات هي مرادة لله إرادة كونية، داخلة في كلماته التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، وهو -سبحانه- مع ذلك لم يردها إرادة دينية، ولا هي موافقة لكلماته الدينية، ولا يرضي لعباده الكفر، ولا يأمر بالفحشاء، فصارت له من وجه مكروهة. ولكن هذه ليست بمنزلة قبض المؤمن، فإن ذلك يكرهه؛ والكراهة مساءة المؤمن، وهو يريده لما سبق في قضائه له بالموت فلا بد منه، وإرادته لعبده المؤمن خير له ورحمة به، فإنه قد ثبت في الصحيح: (أن الله ـ تعالى ـ لا يقضي للمؤمن قضاءً إلا كان خيرًا له، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له). وأما المنكرات، فإنه يبغضها ويكرهها؛ فليس لها عاقبة محمودة من هذه الجهة إلا أن يتوبوا منها فيرحمون بالتوبة، وإن كانت التوبة لابد أن تكون مسبوقة بمعصية؛ ولهذا يجاب عن قضاء المعاصي على المؤمن بجوابين: أحدهما: أن هذا الحديث لم يتناولها وإنما تناول المصائب. والثاني: أنه إذا تاب منها كان ما تعقبه التوبة خيرًا فإن التوبة حسنة وهي من أحب الحسنات إلى الله، والله يفرح بتوبة عبده إذا تاب إليه أشد ما يمكن أن يكون من الفرح، وأما المعاصي التي لا يتاب منها فهي شر على صاحبها، والله ـ سبحانه ـ قدر كل شيء وقضاه؛ لما له في ذلك من/ الحكمة، كما قال: ولكن هذا بحر واسع قد بسطناه في مواضع، والمقصود هنا التنبيه على أن الشيء المعين يكون محبوبًا من وجه، مكروهًا من وجه وأن هذا حقيقة التردد، وكما أن هذا في الأفعال فهو في الأشخاص. والله أعلم. / فأجاب: الحمد لله رب العالمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله. أما قوله تعالى: (ياعبادي، إني حرمت الظلم على نفسي) ففيه مسألتان كبيرتان، كل منهما ذات شعب وفروع: إحداهما: في الظلم الذي حرمه الله على نفسه، ونفاه عن نفسه بقوله: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ} [هود: 101] ، وقوله: فصلت: 46] ، وقوله: /فذهب المكذبون بالقدر القائلون: بأن الله لم يخلق أفعال العباد، ولم يرد أن يكون إلا ما أمر بأن يكون. وغلاتهم المكذبون بتقدم علم الله وكتابه بما سيكون من أفعال العباد من المعتزلة وغيرهم، إلى أن الظلم منه هو نظير الظلم من الآدميين بعضهم لبعض، وشبهوه ومثلوه في الأفعال بأفعال العباد، حتى كانوا هم ممثلة الأفعال، وضربوا لله الأمثال، ولم يجعلوا له المثل الأعلى، بل أوجبوا عليه وحرموا ما رأوا أنه يجب على العباد ويحرم، بقياسه على العباد، وإثبات الحكم في الأصل بالرأي، وقالوا عن هذا: إذا أمر العبد ولم يعنه بجميع ما يقدر عليه من وجوه الإعانة كان ظالمًا له، والتزموا أنه لا يقدر أن يهدي ضالًا، كما قالوا: إنه لا يقدر أن يضل مهتديا، وقالوا عن هذا: إذا أمر اثنين بأمر واحد وخص أحدهما بإعانته على فعل المأمور كان ظالمًا، إلى أمثال ذلك من الأمور التي هي من باب الفضل والإحسان، جعلوا تركه لها ظلمًا. وكذلك ظنوا أن التعذيب لمن كان فعله مقدرًا ظلم له، ولم يفرقوا بين التعذيب لمن قام به سبب استحقاق ذلك ومن لم يقم، وإن كان ذلك الاستحقاق خلقه لحكمة أخرى عامة أو خاصة. وهذا الموضع زلت فيه أقدام، وضلت فيه أفهام، فعارض هؤلاء آخرون من أهل الكلام المثبتين للقدر، فقالوا: ليس للظلم منه حقيقة / يمكن وجودها، بل هو من الأمور الممتنعة لذاتها، فلا يجوز أن يكون مقدورًا ولا أن يقال: إنه هو تارك له باختياره ومشيئته. وإنما هو من باب الجمع بين الضدين، وجعل الجسم الواحد في مكانين، وقلب القديم محدثًا، والمحدث قديمًا، وإلا فمهما قدر في الذهن وكان وجوده ممكنًا والله قادر عليه فليس بظلم منه، سواء فعله أو لم يفعله. وتلقي هذا القول عن هؤلاء طوائف من أهل الإثبات من الفقهاء وأهل الحديث، من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم، ومن شراح الحديث ونحوهم، وفسروا هذا الحديث بما ينبني على هذا القول، وربما تعلقوا بظاهر من أقوال مأثورة، كما روينا عن إياس ابن معاوية أنه قال: ما ناظرت بعقلي كله أحدًا إلا القدرية، قلت لهم: ما الظلم؟ قالوا: أن تأخذ ما ليس لك، أو أن تتصرف فيما ليس لك. قلت: فلله كل شيء. وليس هذا من إياس إلا ليبين أن التصرفات الواقعة هي في ملكه، فلا يكون ظلمًا بموجب حدهم، وهذا مما لا نزاع بين أهل الإثبات فيه؛ فإنهم متفقون مع أهل الإيمان بالقدر على أن كل ما فعله الله فهو عدل. وفي حديث الكرب الذي رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أصاب عبدًا قط هم ولا حزن فقال: اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك، ناصيتي بيدك،/ ماضٍ في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي وغمي، إلا أذهب الله همه وغمه، وأبدله مكانه فرحًا). قالوا: يا رسول الله، أفلا نتعلمهن؟ قال: (بلى ينبغي لمن سمعهن أن يتعلمهن)، فقد بين أن كل قضائه في عبده عدل؛ ولهذا يقال: كل نعمة منه فضل، وكل نقمة منه عدل. ويقال: أطعتك بفضلك والمنة لك، وعصيتك بعلمك ـ أو بعدلك ـ والحجة لك، فأسألك بوجوب حجتك على وانقطاع حجتي إلا ما غفرت لي. وهذه المناظرة من إياس كما قال ربيعة بن أبي عبد الرحمن لغيلان حين قال له غيلان: نشدتك الله! أتري الله يحب أن يعصي؟ فقال: نشدتك الله! أتري الله يعصي قسرًا؟ يعني: قهرًا. فكأنما ألقمه حجرًا فإن قوله: يحب أن يعصي لفظ فيه إجمال، وقد لا يتأتي في المناظرة تفسير المجملات خوفًا من لدد الخصم فيؤتي بالواضحات، فقال: أفتراه يعصي قسرًا؟ فإن هذا إلزام له بالعجز الذي هو لازم للقدرية، ولمن هو شر منهم من الدهرية الفلاسفة وغيرهم. وكذلك إياس رأي أن هذا الجواب المطابق لحدهم خاصم لهم، ولم يدخل معهم في التفصيل الذي يطول. /وبالجملة،فقوله تعالى: /ولهذا كان الصواب الذي عليه الأئمة فيمن لم يكلف في الدنيا من أطفال المشركين، ونحوهم ما صح به الحديث، وهو: أن الله أعلم بما كانوا عاملين، فلا نحكم لكل منهم بالجنة ولا لكل منهم بالنار، بل هم ينقسمون بحسب ما يظهر من العلم إذا كلفوا يوم القيامة في العرصات كما جاءت بذلك الآثار. وكذلك قوله تعالى: /وكذلك ظن قوم أن انتفاع الميت بالعبادات البدنية من الحي ينافي قوله: وهذه النصوص النافية للظلم تثبت العدل في الجزاء، وأنه لا يبخس عامل عمله، وكذلك قوله فيمن عاقبهم: وكذلك قوله تعالى: /يبين ذلك أن ما قاله الناس في حدود الظلم يتناول هذا دون ذلك، كقول بعضهم: الظلم وضع الشيء في غير موضعه، كقولهم: من أشبه أباه فما ظلم. أي: فما وضع الشبه غير موضعه، ومعلوم أن الله ـ سبحانه ـ حكم عدل لا يضع الأشياء إلا مواضعها، ووضعها غير مواضعها ليس ممتنعًا لذاته، بل هو ممكن لكنه لا يفعله؛ لأنه لا يريده، بل يكرهه ويبغضه، إذ قد حرمه على نفسه. وكذلك من قال: الظلم إضرار غير مستحق. فإن الله لا يعاقب أحدًا بغير حق. وكذلك من قال: هو نقص الحق وذكر أن أصله النقص كقوله: وأما من قال: هو التصرف في ملك الغير فهذا ليس بمطرد ولا منعكس، فقد يتصرف الإنسان في ملك غيره بحق ولا يكون ظالمًا، وقد يتصرف في ملكه بغير حق فيكون ظالمًا، وظلم العبد نفسه كثير في القرآن. وكذلك من قال: فعل المأمور خلاف ما أمر به، ونحو ذلك إن سلم صحة مثل هذا الكلام فالله ـ سبحانه ـ قد كتب على نفسه الرحمة وحرم على نفسه الظلم، فهو لا يفعل خلاف ما كتب ولا يفعل ما حرم. وليس هذا الجواب موضع بسط هذه الأمور التي نبهنا عليها فيه/ وإنما يشير إلى النكت، وبهذا يتبين القول المتوسط، وهو أن الظلم الذي حرمه الله على نفسه مثل: أن يترك حسنات المحسن فلا يجزيه بها ويعاقب البريء على ما لم يفعل من السيئات، ويعاقب هذا بذنب غيره، أو يحكم بين الناس بغير القسط، ونحو ذلك من الأفعال التي ينزه الرب عنها لقسطه وعدله وهو قادر عليها، وإنما استحق الحمد والثناء؛ لأنه ترك هذا الظلم وهو قادر عليه. وكما أن الله منزه عن صفات النقص والعيب فهو - أيضًا - منزه عن أفعال النقص والعيب. وعلى قول الفريق الثاني ما ثم فعل يجب تنزيه الله عنه أصلًا، والكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمتها يدل على خلاف ذلك، ولكن متكلمو أهل الإثبات لما ناظـروا متكلمة النفي ألزموهم لوازم لم ينفصلوا عنها إلا بمقابلة الباطل بالباطل، وهذا مما عابه الأئمة وذموه، كما عاب الأوزاعي والزبيدي والثوري وأحمد بن حنبل وغيرهم مقابلة القدرية بالغلو في الإثبات، وأمروا بالاعتصام بالكتاب والسنة، وكما عابوا أيضًا على من قابل الجهمية نفاة الصفات بالغلو في الإثبات حتى دخل في تمثيل الخالق بالمخلوق. وقد بسطنا الكلام في هذا وهذا، وذكرنا كلام السلف والأئمة في هذا في غير هذا الموضع. ولو قال قائل: هذا مبني على [مسألة تحسين العقل وتقبيحه] ، فمن قال: العقل يعلم به حسن الأفعال وقبحها فإنه ينزه الرب عن بعض/ الأفعال، ومن قال: لا يعلم ذلك إلا بالسمع فإنه يجوز جميع الأفعال عليه لعدم النهي في حقه، قيل له: ليس بناء هذه على تلك بلازم، وبتقدير لزومها ففي تلك تفصيل وتحقيق قد بسطناه في موضعه، وذلك أنا فرضنا أنا نعلم بالعقل حسن بعض الأفعال وقبحها، لكن العقل لا يقول: إن الخالق كالمخلوق، حتى يكون ما جـعله حسنًا لهذا أو قبيحًا له جعله حسنًا للآخر أو قبيحًا له، كما يفعل مثل ذلك القدرية؛ لما بين الرب والعبد من الفروق الكثيرة. وإن فرضنا أن حسن الأفعال وقبحها لا يعلم إلا بالشرع، فالشرع قد دل على أن الله قد نزه نفسه عن أفعال وأحكام - فلا يجوز أن يفعلها- تارة بخبره مثنيا على نفسه بأنه لا يفعلها، وتارة بخبره أنه حرمها على نفسه. وهذا يبين المسألة الثانية. فنقول: الناس لهم في أفعال الله باعتبار ما يصلح منه ويجوز وما لا يجوز منه ثلاثة أقوال: طرفان ووسط. فالطرف الواحد: طرف القدرية، وهم الذين حجروا عليه أن يفعل إلا ما ظنوا بعقلهم أنه الجائز له، حتى وضعوا له شريعة التعديل والتجويز، فأوجبوا عليه بعقلهم أمورًا كثيرة، وحرموا عليه بعقلهم أمورًا كثيرة، لا بمعنى أن العقل آمر له وناهٍ؛ فإن هذا لا يقوله عاقل. بل بمعنى أن تلك الأفعال مما/علم بالعقل وجوبها وتحريمها، ولكن أدخلوا في ذلك المنكرات ما بنوه على بدعتهم في التكذيب بالقدر وتوابع ذلك. والطرف الثاني: طرف الغلاة في الرد عليهم، وهم الذين قالوا: لا ينزه الرب عن فعل من الأفعال، ولا نعلم وجه امتناع الفعل منه إلا من جهة خبره أنه لا يفعله، المطابق لعلمه بأنه لا يفعله. وهؤلاء منعوا حقيقة ما أخبر به من أنه كتب على نفسه الرحمة وحرم على نفسه الظلم، قال اللّه ـ تعالى ـ: وفي الصحيحين عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن اللّه لما قضي الخلق كتب على نفسه كتابا، فهو موضوع عنده فوق العرش: إن رحمتي تغلب غضبي)، ولم يعلم هؤلاء أن الخبر المجرد المطابق للعلم لا يبين وجه فعله وتركه؛ إذ العلم يطابق المعلوم، فعلمه بأنه يفعل هذا وأنه لا يفعل هذا ليس فيه تعرض؛ لأنه كتب هذا على نفسه وحرم هذا على نفسه، كما لو أخبر عن كائن من كان أنه يفعل كذا ولا يفعل كذا، لم يكن في هذا بيان؛ لكونه محمودًا ممدوحًا على فعل هذا وترك هذا، ولا في ذلك مـا يبين قيام المقتضي لهـذا والمانـع مـن هذا؛ فإن الخبر المحض كاشف عن المخبر عنه، ليس فيه بيان ما يدعو إلى الفعل ولا إلى الترك، بخلاف قوله: وكما أن الفرق ثابت في حقنا بين قوله: ونظير ما ذكره من كتابته على نفسه كما تقدم قوله تعالى: ونظير تحريمه على نفسه وإيجابه على نفسه ما أخبر به من قسـمه ليفعلن وكلمته السـابقة، كقوله: ولهذا قال الفقهاء: اليمين إما أن توجب حقًا، أو منعًا، أو تصديقًا، أو تكذيبًا. وإذا كان معقولا في الإنسان أنه يكون آمرًا مأمورًا كقوله: ثم صفات المخلوقات ليست صفات له؛ كالألوان والطعوم والروائح لعدم قيام ذلك به. وكذلك حركات المخلوقات ليست حركات له ولا أفعالا له بهذا الاعتبار؛ لكونها مفعولات هو خلقها. وبهذا الفرق تزول شبه كثيرة. والأمر الذي كتبه على نفسه يستحق عليه الحمد والثناء وهو مقدس عن ترك هذا الذي لو ترك لكان تركه نقصًا، وكذلك الأمر الذي حرمه على نفسه يستحق الحمد والثناء على تركه، وهو مقدس عن فعله الذي لو كان لأوجب نقصًا. /وهذا كله بين - وللّه الحمد - عند الذين أوتوا العلم والإيمان، وهو أيضًا مستقر في قلوب عموم المؤمنين، ولكن القدرية شبهوا على الناس بشبههم، فقابلهم من قابلهم بنوع من الباطل، كالكلام الذي كان السلف والأئمة يذمونه؛ وذلك أن المعتزلة قالوا: قد حصل الاتفاق على أن اللّه ليس بظالم، كما دل عليه الكتاب والسنة، والظالم من فعل الظلم، كما أن العادل من فعل العدل، هذا هو المعروف عند الناس من مسمي هذا الاسم سمعًا وعقلا، قالوا: ولو كان الله خالقًا لأفعال العباد التي هي الظلم لكان ظالمًا. فعارضهم هؤلاء بأن قالوا: ليس الظالم من فعل الظلم، بل الظالم من قام به الظلم. وقال بعضهم: الظالم من اكتسب الظلم وكان منهيًا عنه. وقال بعضهم: الظالم من فعل محرما عليه أو ما نهي عنه. ومنهم من قال: من فعل الظلم لنفسه. وهؤلاء يعنون: أن يكون الناهي له والمحرم عليه غيره الذي يجب عليه طاعته؛ ولهذا كان تصور الظلم منه ممتنعًا عندهم لذاته؛ كامتناع أن يكون فوقه آمر له وناه. ويمتنع عند الطائفتين أن يعود إلى الرب من أفعاله حكم لنفسه. وهؤلاء لم يمكنهم أن ينازعوا أولئك في أن العادل من فعل العدل بل سلموا ذلك لهم، وإن نازعهم بعض الناس منازعة عنادية. /والذي يكشف تلبيس المعتزلة أن يقال لهم:الظالم والعادل الذي يعرفه الناس، وإن كان فاعلا للظلم والعدل فذلك يأثم به أيضًا، ولا يعرف الناس من يسمي ظالمًا ولم يقم به الفعل الذي به صار ظالمًا، بل لا يعرفون ظالمًا إلا من قام به الفعل الذي فعله وبه صار ظالمًا، وإن كان فعله متعلقًا بغيره وله مفعول منفصل عنه. لكن لا يعرفون الظالم إلا بأن يكون قد قام به ذلك، فكونكم أخذتم في حد الظالم أنه من فعل الظلم وعنيتم بذلك من فعله في غيره - فهذا تلبيس وإفساد للشرع والعقل واللغة، كما فعلتم في مسمي المتكلم حيث قلتم: هو من فعل الكلام ولو في غيره. وجعلتم من أحدث كلاما منفصلا عنه قائمًا بغيره متكلما وإن لم يقم به هو كلام أصلا. وهذا من أعظم البهتان والقرمطة والسَّفْسَطة. ولهذا ألزمهم السلف أن يكون ما أحدثه من الكلام في الجمادات، وكذلك أيضًا ما خلقه في الحيوانات، ولا يفرق حينئذ بين نطق وأنطق وإنما قالت الجلود: وكل كلام في الوجود كلامه ** ســـواء علىـنا نـثره ونظامــه وهذا يستوعب أنواع الكفر؛ ولهذا كان من الأمر البين للخاصة والعامة أن مَنْ قال: المتكلم لا يقوم به كلام أصلا - فإن حقيقة قوله أنه ليس بمتكلم؛ إذ ليس المتكلم إلا هذا؛ ولهذا كان أولوهم يقولون: ليس بمتكلم. ثم قالوا: هو متكلم بطريق المجاز، وذلك لما استقر في الفطر أن المتكلم لابد أن يقوم به كلام وإن كان مع ذلك فاعلا له، كما يقوم بالإنسان كلامه وهو كاسب له. أما أن يجعل مجرد أحداث الكلام في غيره كلاما له - فهذا هو الباطل. وهكذا القول في الظلم، فَهَبْ أن الظالم من فعل الظلم فليس هو من فعله في غيره، ولم يقم به فعل أصلا، بل لابد أن يكون قد قام به فعل، وإن كان متعديا إلى غيره، فهذا جواب. ثم يقال لهم: الظلم فيه نسبة وإضافة، فهو ظلم من الظالم، بمعنى أنه عدوان وبغي منه، وهو ظلم للمظلوم، بمعنى أنه بغي واعتداء عليه. وأما من لم يكن متعدي عليه به ولا هو منه عدوان على غيره فهو في حقه ليس بظلم، لا منه ولا له. /واللّه ـ سبحانه ـ إذا خلق أفعال العباد فذلك من جنس خلقه لصفاتهم فهم الموصوفون بذلك، فهو ـ سبحانه ـ إذا جعل بعض الأشياء أسود، وبعضها أبيض، أو طويلا، أو قصيرًا، أو متحركا، أو ساكنًا. أو عالمًا، أو جاهلا، أو قادرًا، أو عاجزًا، أو حيًا، أو ميتًا. أو مؤمنًا أو كافرًا، أو سعيدًا، أو شقيًا، أو ظالمًا. أو مظلومًا ـ كان ذلك المخلوق هو الموصوف بأنه الأبيض والأسود، والطويل والقصير، والحي والميت، والظالم والمظلوم، ونحو ذلك. واللّه ـ سبحانه ـ لا يوصف بشيء من ذلك، وإنما إحداثه للفعل الذي هو ظلم من شخص وظلم لآخر بمنزلة إحداثه الأكل والشرب الذي هو أكل من شخص وأكل لآخر، وليس هو بذلك آكلا ولا مأكولا. ونظائر هذا كثيرة، وإن كان في خلق أفعال العباد لازمها ومتعديها حكم بالغة، كما له حكمة بالغة في خلق صفاتهم وسائر المخلوقات، لكن ليس هذا موضع تفصيل ذلك. وقد ظهر بهذين الوجهين تَدْليس القدرية. وأما تلك الحدود التي عورضوا بها فهي دعاوي ومخالفة أيضًا للمعلوم من الشرع واللغة والعقل، أو مشتملة على نوع من الإجمال، فإن قول القائل: الظالم من قام به الظلم يقتضي أنه لابد أن يقوم به، لكن يقال له: وإن لم يكن فاعلا له آمرًا له لابد أن يكون فاعلا له/مع ذلك، فإن أراد الأول كان اقتصاره على تفسير الظالم بمن قام به الظلم كاقتصار أولئك على تفسير الظالم في فعل الظلم، والذي يعرفه الناس عامهم وخاصهم أن الظالم فاعل للظلم وظلمه فعل قائم به، وكل من الفريقين جحد بعض الحق. وأما قولهم: من فعل محرما عليه أو منهيًا عنه ونحو ذلك، فالإطلاق صحيح. لكن يقال: قد دل الكتاب والسنة على أن اللّه تعالى كتب على نفسه الرحمة، وكان حقًا عليه نصر المؤمنين، وكان حقًا عليه أن يجزي المطيعين، وأنه حرم الظلم على نفسه، فهو ـ سبحانه ـ الذي حرم بنفسه على نفسه الظلم، كما أنه هو الذي كتب بنفسه على نفسه الرحمة لا يمكن أن يكون غيره محرما عليه أو موجبا عليه، فضلا عن أن يعلم ذلك بعقل أو غيره، وإذا كان كذلك فهذا الظلم الذي حرمه على نفسه هو ظلم بلا ريب، وهو أمر ممكن مقدور عليه، وهو ـ سبحانه ـ يتركه مع قدرته عليه بمشيئته واختياره؛ لأنه عادل ليس بظالم، كما يترك عقوبة الأنبياء والمؤمنين، وكما يترك أن يحمل البريء ذنوب المعتدين.
|